يقطع بصراخه سكون الشارع الهادئ صائحا بأعلى صوته "أجيب لكم منين".. لم يتصور أحد من جيرانه أن تصدر تلك الصرخة من ذلك الرجل الوقور الذى عاش بينهم سنوات طويلة لم يسمع أحد منهم له صوتا خلالها، اللهم إلا كلمات مرحبة تقتضيها التحية العابرة.. كان مضربا للمثل فى هدوءه واتزانه ورجاحة عقله.. يبتسم فى تودد إذا ماقابلته صدفة، يمشى فى ثقة تزيدها هيئته الوقورة هيبة، كريما مع الكل.. يغدق ببذخ على الجميع تسبق إبتسامته يده..
لم يتصور أحد أن ينقلب حال الرجل تماما لتكسو وجهه تكشيرة قلما ما تنفرج أساريره بسببها، وعصبية لم تعد خافية على أحد تترجمها صرخته "أجيب لكم منين" التى إعتاد فى الفترة الأخيرة أن يطلقها فى وجه زوجته وأولاده بعدما إشتدت وطأة الغلاء وتبدل حال الاسرة الميسورة إلى الضنك والضيق.
يبدو أن عدوى تلك الصرخة انتقلت من شقة الرجل الوقور لتصيب كل جيرانه، وأزاحت معها كل شعور بالخجل أو الحرج ولم يعد غريبا أن يتعالى صوت أحدهم بين يوم وآخر مردد نفس الصرخة العاجزة "أحيب لكم منين" بعدما إكتشف الجميع أنهم فى الهم سواء.
لم تتوقف تلك الصرخة عند حدود الحوائط والأبواب، ولم يعد يطلقها الرجل فى وجه زوجته وأولاده فقط، بل إمتدت خارج بيته وأهل بيته.. يطلقها فى وجه محصل الكهرباء والغاز والمياه بعصبية لم يعتدها أى منهم.
إشفاقهم على حال الرجل كان أكثر من تعجبهم من حاله! لكن مابيدهم من حيلة فهم "عبد المأمور"!
ماهدأ من روعته قليلا أن صرخته تلك تجاوزت حدود بيته وشارعه لتتلاقى مع صرخات أخرى تنطلق من كل البيوت والشوارع والأحياء الراقية منها والعشوائية! أصبح الجميع يرددها بغضب وضيق وخنقة تعكس حالة العجز وقلة الحيلة التى بات الكل عليها.
تتعرض سيارة أحدهم لحادث يدرك أن عبء إصلاحها يفوق قدرته على التحمل فيصيح "أجيب لكم منين؟"!
يلح الأولاد لقضاء عطلتهم الصيفية فى القرية السياحية التى إعتادوها فيصرخ الاب "أجيب لكم منين؟"!!
تعرض عليه الزوجه قائمة طلبات البيت بعد إستبعاد ما أمكنها من سلع كانت يوما ضرورية تجنبا لجملته الغاضبة، لكنه وبحسبة بسيطة يشعر بالعجز فيعلو صراخه رغما عنه "أجيب لكم منين؟"!!
الغريب أن تلك الصرخات المدوية التى انطلقت من البيوت المستورة لم تزعج أى مسئول، ولم يتحرك أحدهم لتخفيف آلام تلك الاسر المطحونة، كأن فى آذانهم وقرا.. أو أنهم يضعون تلك السماعات الضخمة التى لاتوصل لهم سوى وصلات التطبيل ولاتبث سوى أغانى التخدير العامة "ودى بشرة خير"، فتخرج تصريحاتهم لتتماهى مع تلك الحالة من الإنكار والتجاهل والتزييف التى يعيشونها.. "المواطن المصرى سعيد ويتحمل تبعات الإصلاح فى رضا"،"مردود الإصلاح ظهرت بشائره على المصريين"،"المصرى على إستعداد لتحمل المزيد لتحيا مصر".
صحيح اللى مبيشوفش من الغربال يبقى أعمى البصر واللى مبيحسش بحال الغلابة يبقى أعمى البصيرة واللى بيجمع بين الاثنين يبقى فاقد للبصر والبصيرة.. وحسبى الله.
________
بقلم: هالة فؤاد